السلام
عليكم ورحمة الله ...
علينا أن
نعلم جميعاً أن حقيقة الصوم ليس مجرد ترك الطعام والشراب ، بل شرع الله تعالى
الصيام لأجل أن نحصِّل التقوى ، ولذا كان الصيام الحقيقي هو الصيام عن المعاصي
بتركها وهجرها والكف عنها ، وهو صوم القلب ، لا فقط صوم الجوارح ، وقد دلَْت عموم
السنَّة وخصوصها على ما قلناه ، وكذا جاء في كلام أهل العلم ما يبينه ويوضحه .
فعَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ
فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ ) رواه البخاري (
1804 ).
وعَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ
، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ ) رواه أحمد
(8693).
وصححه
ابن حبان ( 8 / 257 ) والألباني في " صحيح الترغيب " ( 1 / 262 )
.
وقد كان
الصحابة وسلف الأمة يحرصون على أن يكون صيامهم طُهْرة للأنفس والجوارح ،
وتَنزُّهًا عن المعاصي والآثام .
وقال عمر
بن الخطاب رضي الله عنه : ليس الصيام من الشراب والطعام وحده ، ولكنه
من الكذب والباطل واللغو .
وقال
جابر بن عبد الله الأنصاري : إذا صمتَ فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب ، والمأثم
، ودع أذى الخادم ، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك ، ولا تجعل يوم فطرك ويوم صومك
سواء .
وعن حفصة
بنت سيرين – وكانت عالمة من التابعين - قالت : الصيام جُنَّة ، ما لم يخرقها
صاحبها ، وخرقها الغيبة .
وعن ميمون بن مهران : إن أهون الصوم ترك الطعام والشراب
.
ذكر هذه
الآثار : ابن حزم في " المحلى " ( 4 / 308 ) .
ولا نعجب
بعدها إذا عل منا أن بعض أهل العلم قال ببطلان صوم من وقع في المعصية
أثناء صيامه ، وإن كان الصحيح أنه لا يبطل الصوم ، لكن لا شك في نقصانه ،
ومخالفته لحقيقة الصوم .
قال
الحافظ ابن حجر رحمه الله :
"الغيبة
تضر بالصيام ، وقد حكي عن عائشة ، وبه قال الأوزاعي : إن الغيبة تفطِّر الصائم ،
وتوجب عليه قضاء ذلك اليوم ، وأفرط ابن حزم فقال : يبطله كل معصية من
متعمِّد لها ذاكر لصومه ، سواء كانت فعلاً ، أو قولاً ؛ لعموم قوله ( فلا يرفث ولا
يجهل ) ؛ ولقوله صلى الله عليه وسلم : ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس
لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) " انتهى .
" فتح
الباري " ( 4 / 104 ) .
وقال
الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله :
"أما
الذي يجب عنه الصوم : فلعلكم تستغربون إذا قلت : إن الذي يجب عنه الصوم هو: المعاصي
, يجب أن يصوم الإنسان عن المعاصي ؛ لأن هذا هو المقصود الأول في الصوم ؛ لقول الله
تبارك وتعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ
كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) البقرة/183
، لم يقل : لعلكم تجوعون ! أو لعلكم تعطشون ! أو لعلكم تمسكون عن الأهل ! لا ، قال
: ( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) , هذا هو المقصود الأول من الصوم ,
وحقَّق النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وأكده بقوله : ( من لم يدع قول الزور
والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) إذاً أن يصوم الإنسان عن
معاصي الله عز وجل , هذا هو الصوم الحقيقي ، أما الصوم الظاهري : فهو الصيام عن
المفطرات , الإمساك عن المفطرات تعبداً لله عز وجل من طلوع الفجر إلى غروب
الشمس ؛ لقوله تعالى : ( فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ
لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ
الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ
) البقرة/187 ، هذا صوم نسميه الصوم الظاهري، صوم البدن فقط , أما صوم القلب الذي
هو المقصود الأول : فهو الصوم عن معاصي الله عز وجل .
وعلى هذا
: ف من صام صوماً ظاهريّاً جسديّاً ، ولكنه لم يصم صوماً قلبيّاً : فإنَّ
صومه ناقص جدّاً جدّاً , لا نقول : إنه باطل ، لكن نقول : إنه ناقص , كما نقول في
الصلاة , المقصود من الصلاة الخشوع والتذلل لله عز وجل , وصلاة القلب قبل
صلاة الجوارح , لكن لو أن الإنسان صلّى بجوارحه ولم يصلِ بقلبه ، كأن يكون قلبه في
كل وادٍ : فصلاته ناقصة جدّاً , لكنها مجزئة حسب الظاهر ، مجزئة لكنها ناقصة جدّاً
, كذلك الصوم ناقص جدّاً إذا لم يصم الإنسان عن معصية الله , لكنه مجزئ ؛ لأن
العبادات في الدنيا إنما تكون على الظاهر" انتهى.
" لقاءات
الباب المفتوح " ( 116 / ص 1 ) .
ثانياً
:
وقد
قسَّم العلماء الصبر إلى ثلاثة أقسام : الصبر على الطاعة ، والصبر عن المعصية ،
والصبر على القدَر ، وقد جمع الصيام جميع أنواع الصبر .
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله :
"وأفضل
أنواع الصبر : الصيام ؛ فإنه يجمع الصبر على الأنواع الثلاثة ؛ لأنه صبر على طاعة
الله عز وجل ، وصبر عن معاصي الله ؛ لأن العبد يترك شهواته لله ونفسه قد تنازعه
إليها ، ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن الله عز وجل يقول : ( كل عمل ابن آدم له إلا
الصيام فإنه لي وأنا أجزي به ؛ لأنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي ) ،
وفيه أيضاً : صبر على الأقدار المؤلمة بما قد يحصل للصائم من الجوع والعطش "
انتهى .
" جامع
العلوم والحِكَم " ( ص 219 ) .
ف
من حقَّق صيامه كما شرعه الله تعالى فإنه يحصِّل ثواباً عظيماً ،
وأجراً جزيلاً من ربه تبارك وتعالى ، ويكفيه قوله تعالى : ( إِنَّمَا
يُوفَّى الصَّابِرونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ) الزمر/10